قصة التتار (الحلقة الواحدة والعشرون)


سقوط ميافارقين وحصار حلب


د. راغب السرجاني

تخطيط هولاكو لإسقاط حلب

هولاكو قائد التتار المغول يغزو بلاد الشاملقد وجد هولاكو أنه لو أراد التوجه إلى حلب فإنه سوف يخترق الشمال العراقي أولاً، ثم يدخل سوريا من شمالها الشرقي مخترقاً بذلك شمال سوريا، موازيًا حدود تركيا.. حتى يصل إلى حلب في شمال سوريا الغربي، وهذه المناطق وإن كانت كثيرة الأنهار - والأنهار تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة, وخاصة في مناورات الجيوش الضخمة ـ إلا أن هذه المناطق خضراء، ووفيرة الزرع، ووفيرة المياه، بالإضافة إلى أنها قريبة من ميافارقين، فلو احتاج جيش أشموط بن هولاكو لمدد من جيش التتار الرئيسي فإنه سيكون قريباً منه..

أما إذا أراد هولاكو أن يتوجه إلى دمشق أولاً فهذا -وإن كان سيمثل عنصر مفاجأة رهيبة للمسلمين في دمشق لأن هولاكو سيأتي من حيث لا يتوقعون- إلا أنه يتحتم على هولاكو لكي يفعل ذلك أن يجتاز صحراء بادية الشام أو صحراء السماوة بكاملها ليصل إلى دمشق، وهذه صحراء قاحلة جداً، والسير فيها بجيش كبير يعتبر مخاطرة مروعة، ولا يستطيع هولاكو أن يقدم على هذه الخطوة.. مع أنه لو فعلها لفاجأ جيش الناصر يوسف من حيث لا يتوقع، وقابل القوة الرئيسية للمسلمين في المنطقة..

وسبحان الله!.. قبل ذلك بأكثر من ستة قرون، وبإمكانيات أقل من ذلك بكثير اجتاز خالد بن الوليد t هذه الصحراء الشاسعة بجيشه من العراق، ليفاجئ جيوش الرومان بالقرب من دمشق، ونجح في ذلك نجاحاً مبهراً، لكن شتان بين خالد الصحابي t، وهولاكو السفاح لعنه الله..

المهم.. باستقراء هذه الأمور جميعاً قرر هولاكو أن يتوجه بجيشه إلى حلب أولاً، على أن يبقى ابنه أشموط محاصراً لميافارقين..

 

الطريق إلى حلب

غزو المغول التتار بلاد الشاموبدأ جيش التتار الجرّار في التحرك من قواعده في همدان في اتجاه الغرب، حيث اجتاز الجبال في غرب إيران، ثم دخل حدود العراق من شمالها الشرقي، ثم اجتاز مدينة أربيل، ووصل إلى مدينة الموصل الموالية له، فعبر عندها نهر دجلة، وهو العائق المائي الأول في هذه المنطقة، وهو عائق خطير فعلاً، وكان لابد من عبور هذا النهر في منطقة آمنة تماماً، وذلك لخطورة عبور الجيش الكبير، ولم يكن هناك أفضل من هذه المنطقة الموالية تماماً له!!.. ثم سار جيش التتار بحذاء نهر دجلة على شاطئه الغربي في أرض الجزيرة ليصل إلى مدينة "نصيبين" (في جنوب تركيا الآن)، وهي مدينة تقع جنوب ميافارقين بحوالي 170 كيلو متر فقط، وبذلك اقترب من جيش ابنه أشموط، إلا أنه لم يذهب إليه لاطمئنانه لقوته..

احتل هولاكو مدينة "نصيبين" دون مقاومة تذكر، ثم اتجه غرباً ليحتل مدن "حران"، ثم مدينة "الرها" ثم مدينة "إلبيرة"، وكل هذه المدن في جنوب تركيا، فكان على هولاكو أن يخترق كل هذه المدن التركية لينزل على مدينة "حلب" من شمالها، وبذلك يطمئن لعدم وجود أي جيوب إسلامية في ظهره..

وعند مدينة "إلبيرة" عبر هولاكو نهر الفرات الكبير من شرقه إلى غربه، وبذلك عبر العائق المائي الثاني في المنطقة دون مشاكل تذكر، ثم اتجه جنوباً غرب نهر الفرات ليخترق بذلك الحدود التركية السورية متوجهاً إلى مدينة حلب الحصينة، والقريبة جداً من الحدود التركية (حوالي خمسين كيلو مترًا فقط(..، استمرت هذه الاختراقات التترية للأراضي الفارسية ثم العراقية ثم التركية ثم السورية مدة عامًا كاملًا وهو عام657هـ.

حصار حلب

وصل هولاكو إلى حلب في المحرم من سنة 658هـ، وأطبقت الجيوش المغولية التترية على المدينة المسلمة من كل الجهات، ولكن حلب رفضت التسليم لهولاكو، وتزعم المقاومة فيها توران شاه عم الناصر يوسف الأيوبي، ولكنه كان مجاهداً بحق وليس كابن أخيه، ونصبت المجانيق التترية حول مدينة حلب.. وبدأ القصف المتوالي من التتار على المدينة.. وبالطبع كان الناصر يوسف يربض بجيشه بعيداً على مسافة ثلاثمائة كيلومتر إلى الجنوب في دمشق!!..

سقوط ميافارقين!!

سقوط ميافارقينوفي هذه الأثناء حدث حادث أليم ومفجع، إذ سقطت مدينة ميافارقين تحت أقدام التتار بعد الحصار البشع الذي استمر عاماً ونصف عام!..
ثمانية عشر شهراً متصلة من النضال والكفاح والجهاد.. وذلك دون أن تتحرك نخوة قلب أمير من الأمراء أو ملك من الملوك!.. ثمانية عشر شهراً والناصر والأشرف والمغيث وغيرهم من الأسماء الضخمة يراقبون الموقف ولا يتحركون!..

سقطت مدينة ميافارقين الباسلة، واستبيحت حرماتها تماماً.. فقد جعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد يقاوم في هذه المنطقة.. فقتل السفاح كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمرها تدميراً.. ولكنه احتفظ بالأمير الكامل محمد الأيوبي -رحمه الله- حياً ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه هولاكو وهو في حصار مدينة حلب..

استشهاد الكامل محمد الأيوبي

استجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي -رحمه الله-، فأمسك به وقيده، ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه!!.. وظل به على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها..
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169- 171].

وعن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله : "ما من عبد يموت ـ له عند الله خير ـ يسره أن يرجع إلى الدنيا ـ وأن له الدنيا وما فيها ـ إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل مرة أخرى"..[1].

وقد يقول قائل: لقد قتل الكامل محمد الذي قاوم، كما قتل الخليفة المستعصم بالله الذي سلم ولم يقاوم!.. ولكن أقول لكم يا إخواني: شتان!!..

شتان بين من مات رافعاً رأسه، ومن يموت ذليلاً منكسراً مطأطئ الرأس..
شتان بين من مات وهو ممسك بسيفه، ومن مات وهو رافع يده بالتسليم..
شتان بين من مات بسهم في صدره وهو مقبل، ومن مات بسهم في ظهره وهو مدبر..

والكامل محمد رحمه الله مات في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. إنه لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة.. وكذلك مات المستعصم بالله في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة..

والله يا إخواني:
لن يُطيل الجبن عمراً، ولن تُقصره الشجاعة..
احفظوا هذه الجملة جيداً!!
حقاً.. لن يُطيل الجبن عمراً، ولن تُقصره الشجاعة..
لكن أين اليقين؟!

استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي، والذي كان بمثابة شمعة مضيئة في عالم من الظلام، وقطع السفاح هولاكو رأسه، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون عبرة لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، حيث عُلِّقَ فترةً على أحد أبواب دمشق، وهو باب الفراديس، ثم انتهى به المقام أن دفن في أحد المساجد، والذي عُرِفَ بعد ذلك بمسجد الرأس..
ونسأل الله أن يكون من أهل الجنة.

[1] البخاري: باب الحور العين . وصفتهن يحار فيها الطرف شديدة سواد العين شديدة بياض العين (2642)، مسلم: باب فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى (4975).

 
Design by Free Wordpress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Templates | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة